دروس الانتخابات التركية- إعادة تشكيل المشهد السياسي ومسؤولية الفائزين

المؤلف: د. ياسين أقطاي11.05.2025
دروس الانتخابات التركية- إعادة تشكيل المشهد السياسي ومسؤولية الفائزين

بعد مرور قرابة أسبوعين على الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا، لا يزال الأتراك منهمكين في محاولة فهم واستيعاب الدروس المستفادة من هذه الانتخابات، إذ يمكن اعتبار تاريخ 31 مارس/آذار 2024 نقطة تحول جذرية، فهو يمثل إعادة توزيع شاملة للأوراق السياسية، ويعيد تشكيل المشهد السياسي التركي برمته، بشكل لم نشهده منذ 22 عامًا على الأقل، حيث كانت التوزيعات السياسية تسير ضمن نمط ثابت ومعتاد.

لقد كشفت الانتخابات بوضوح مرة أخرى أن أصوات الناخبين ليست حكرًا على أي حزب أو تيار سياسي، وأنها لا تمثل ضمانة مطلقة لأي طرف. ونؤكد على كلمة "مرة أخرى" لأن تحول أصوات الناخبين في الانتخابات السابقة قد أظهر هذه الحقيقة أيضًا، وإن لم يكن بنفس القدر من الوضوح والقوة. كما تبين أن استقرار تفضيلات الناخبين لفترات طويلة لم يكن مجرد مصادفة عابرة، وأنه لم يمثل إجبارًا قسريًا على أي منهم. وهذا يشير بوضوح إلى أن التوافق بين التمثيل والتفضيل كان حاضرًا ومهيمنًا لسنوات طوال، وأنه بمجرد أن شعر الناخب باختلال هذا التوافق، أي عندما أحس بفقدان التمثيل المناسب له، فإنه يميل بسهولة إلى خيارات أخرى متنوعة.

الجانب المشرق في الأمر هو أن السياسيين الأتراك سيختبرون أخيرًا تداعيات ونتائج الاعتماد المفرط على الأفكار النمطية والشعارات الجاهزة، والشعور الزائف بالراحة في التعامل مع قاعدة الناخبين وكأنها ملكية خاصة لا تقبل التغيير.

من الجلي أن نتائج الانتخابات قد أطلقت صيحة مدوية تدعو إلى النقد الذاتي وإعادة التفكير العميق في النهج الذي يتبعه حزب العدالة والتنمية، الذي اعتاد على تحقيق الفوز بشكل روتيني، محققًا سلسلة انتصارات متتالية بلغت 17 فوزًا انتخابيًا، ولم يكن أحد يتوقع أن يخوض الحزب مثل هذه المراجعة الذاتية الشاملة بعد أول هزيمة علنية يمنى بها. والآن، يواجه الجميع مسؤولية أخطائهم بصراحة ووضوح أكثر من أي وقت مضى.

عقد المجلس التنفيذي المركزي لحزب العدالة والتنمية اجتماعه الأول بعد الانتخابات، وخلال الاجتماع تم إجراء تقييمات معمقة وشاملة، وعكست تصريحات الرئيس أردوغان عقب الاجتماع إدراكًا عميقًا للعوامل التي ساهمت في النتائج، ومن بينها: مقاطعة الناخبين، وتأثير التدهورات الاقتصادية المتلاحقة على معيشة المتقاعدين وعامة الشعب، بالإضافة إلى تداعيات الأحداث في غزة وغيرها من التطورات الإقليمية. وبالإضافة إلى هذه العوامل الجوهرية، صرّح أردوغان أيضًا بما يلي:

"نواجه معضلة خطيرة تتمثل في داء الغطرسة الذي يستشري في صفوف منظماتنا على مستوى المحافظات والمناطق والبلديات ورؤساء البلديات والنواب وحتى في أوساط البيروقراطية. إن أخطر عدو يواجهه أي حزب سياسي ينبثق من صميم الأمة، هو بناء الحواجز والجدران بينه وبين المواطنين. وسوف نثبت لشعبنا أنه لا يوجد شخص في هذا الحزب فوق المساءلة والمحاسبة، بغض النظر عن منصبه أو موقعه. فما حدث في 31 مارس/آذار لم يكن مجرد خسارة للأصوات فحسب، بل كان أيضًا خسارة فادحة على صعيد الدماء والروح. إن البحث عن الأخطاء والعيوب والنقائص في صفوف الشعب ليس من تقاليدنا الراسخة. ولا يمكن لأي فرد في إدارة الحزب، بمن فيهم أنا شخصيًا، أن يتهرب من تحمل مسؤولية نتائج انتخابات 31 مارس/آذار. فمن واجبنا المقدس أن نبحث بجدية عن أي تقصير أو خطأ أو سوء نية أو خيانة ونعمل على معالجته بشكل فوري. فإما أن نرى أخطاءنا ونصلح ذواتنا، وإلا فإننا سنستمر في الذوبان التدريجي مثل الجليد تحت أشعة الشمس الحارقة. فإما أن نعيد بناء جسور الثقة والمحبة مع شعبنا، وإلا فإننا لن نتمكن من منع أنفسنا من التحول إلى نسخة باهتة من الأحزاب التي دائمًا ما ننتقدها".

إن هذه الشجاعة النادرة في النقد الذاتي تبقي جذوة الأمل متقدة في حزب العدالة والتنمية. وفي الواقع، فإن من سمات أردوغان البارزة أنه لم يكن يركز أبدًا على الانتصارات الـ 17 التي حققها في الماضي، بل كان جل اهتمامه ينصب على ما لم يتمكن من الفوز به.

فمن خلال تحميل نفسه مسؤولية الأصوات التي لم يحصل عليها في أعقاب كل انتخابات، نجح في إضفاء الطابع المؤسسي على عملية النقد الذاتي، حتى في أوج فترات النجاح. إن إعلانه الصريح عن استعداده التام للتعلم من الأخطاء ووعده الذي لا لبس فيه بتحمل المسؤولية الكاملة دون اللجوء إلى الأعذار الواهية أو إلقاء اللوم على الشعب، يظهر نضجًا سياسيًا هائلًا يستحق التقدير.

ولكن، للأسف الشديد، لم نشهد هذا المستوى من النضج السياسي لدى المعارضة، سواء في الانتخابات التي منيت فيها بالخسارة سابقًا، أو في الانتخابات التي حققت فيها الفوز مؤخرًا.

هل الفائزون محصنون من المساءلة؟

بدلًا من الشعور بالمسؤولية العميقة وإدراكهم الكامل بأن فوزهم في هذه الانتخابات يمثل أمانة غالية مُنحت لهم، يسود شعور طاغ بنشوة النصر واللغة الانتقامية البغيضة في كل مكان. ويبدو أنهم الآن بعيدون كل البعد عن إجراء تقييم موضوعي للدروس المستفادة من هذه الانتخابات، والتي تُظهر بوضوح العوامل التي ساهمت في فوز حزب العدالة والتنمية على مدار سنوات طويلة وخسارتهم هم.

فمنذ اللحظات الأولى، تبنى رئيس بلدية أوشاك المنتخب عن حزب الشعب الجمهوري، أوزكان ياليم، في أول تصريح علني له، نهجًا يفيض بالكراهية والتحامل تجاه شريحة معينة من المجتمع، بدلًا من التركيز على تمثيل جميع أطياف المجتمع والسعي الجاد لحل المشكلات المزمنة. حيث جاء في تصريحه المثير للاستياء: "لن أمنح أي أفغاني أو سوري ترخيصًا لفتح محل تجاري. لا أريد المزيد من اللاجئين في مدينتي. وإذا لم أطرد أي شخص يرتكب خطأ بسيطًا من أذنه، فأنا لست رجلًا". هذه التصريحات تنم عن فاشية وعنصرية بغيضة، ولجوؤُه إلى هذا الأسلوب العنصري المقيت دون التطرق إلى مشاكل المدينة الحقيقية، يعد كارثة إنسانية بكل المقاييس.

ليست هناك أزمة لاجئين جديدة على الإطلاق، فلم تشهد سوريا أو أفغانستان موجة هجرة جديدة في الآونة الأخيرة. بل على العكس من ذلك تمامًا، فقد أدى الاستقرار النسبي الذي حققته حركة طالبان في أفغانستان إلى وقف الهجرة بشكل شبه كامل، بل إن هناك اتجاهًا ملحوظًا نحو عودة اللاجئين الأفغان إلى بلادهم الأصلية. وقريبًا لن تتمكّن من العثور على راعٍ أو عامل أفغاني حتى لو بحثت عنه بجد.

وبالنسبة للسوريين، فقد عاد الكثيرون منهم إلى بلادهم بالفعل خلال العامين الماضيين، ولم تشهد المنطقة أي موجة هجرة جديدة من سوريا. علاوة على ذلك، خلَّفت عودة اللاجئين فجوة كبيرة في الاقتصاد المحلي، ويعرف الكثيرون في مختلف القطاعات المشكلات الناجمة عن هذه الفجوة ويتحدثون عنها بصراحة. وفي مدينة أوشاك، توجد نسبة قليلة جدًا من اللاجئين، وهي من بين أدنى معدلات البطالة في مدننا. ويتواجد المهاجرون الموجودون بناء على طلب القطاعات المختلفة في المدينة. وعلى الرغم من ذلك، فإن السبب الوحيد وراء هذه الكراهية والعداء السافر للاجئين هو العنصرية والجهل المستشري، والعنصرية بحد ذاتها هي قمة الجهل والتخلف.

وقبله، أظهر مرشح حزب الشعب الجمهوري لرئاسة بلدية ماماك، ولي غوندوز، عنصرية مماثلة عندما واجه أطفالًا من التركمان العراقيين خلال حملته الانتخابية. فقد تحول فجأة إلى وحش كاسر تجاه أطفال لا تتجاوز أعمارهم 10 سنوات، وصرخ في وجوههم قائلًا: "أليس هؤلاء عراقيين؟ سأرسلهم جميعًا إلى بلدهم. وإذا كبروا سيصبحون مشكلة كبيرة وعائقًا أمام تقدم بلدنا في المستقبل".

هذا النهج الوقح الذي يتجاهل تمامًا أن مَن أمامه هم مجرد أطفال أبرياء، ويتظاهر بالبطولة الزائفة، ويعتبر كل أجنبي مهاجرًا غير شرعي يشكل تهديدًا وجوديًا للبلاد، يعكس جهلًا واضحًا وقلة احترام فاضحة، ويعبر عن انعدام الحب والرحمة والإنسانية، ويجسد الكراهية تجاه الإنسان، حتى لو كان أجنبيًا. ومع الأسف، فقد فاز هذا النهج المتعصب في انتخابات ماماك.

ولكن يجب عدم حصر هذه القضية الحساسة في قضية اللاجئين فقط، فالمهاجر لا يمثل نفسه فحسب، بل يمثل أيضًا فئة الضعفاء الذين لا يملكون القدرة على الدفاع عن أنفسهم، والأشخاص الذين نُؤتمن على رعايتهم وحمايتهم. إنهم يمثلون اختبارًا حقيقيًا لإنسانيتنا وأخلاقنا وقيمنا النبيلة.

لقد ارتكب حزب العدالة والتنمية العديد من الأخطاء الجسيمة، وقد تكون هذه الأخطاء هي السبب الرئيسي وراء خسارته في الانتخابات الأخيرة. ولكن البديل الذي قدمته المعارضة لم يأت بأشخاص أفضل أو أكثر كفاءة أو استحقاقًا. وهذا موضوع آخر يجب التمعن فيه وأخذ العبرة منه، فمن يتعلم من أخطائه فسيكون النجاح حليفه في المستقبل القريب.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة